عظَمة على عظَمة على عظَمة…


“بدّي سيجارة وقداحة”، قالت لي عبلة عندما أبرمتُ معها صفقة بأن أحضر لها أي شيء أرادته مُقابل أن تُكمل عنّي واجبات النسخ لصفوف اللغة العربية. لم أكن طالبة مُهملة ولكنّي كرهت النسخ وكنت ذكية كفاية لأن أتوقع زوال الكتابة بخط اليد.

كان طلبها سهلاً جداً، فلم يُفارق الدخان بيتنا منذ أن انتقل جدّي للإقامة معنا بعد إصابته بالألزهايمر. رغم أنه نسيَ مهارات أكل الخضار والاستحمام، إلا أن التدخين، كأكل الحلويات، بقي راسخاً في ذاكرته، ما أثار شكوكنا بمرضه الإنتقائي الذي جعله ينسى واجباته ويتذكر حقوقه. المهم، سهّل عليّ مرض جدي سرقة السجائر والقداحات كلما أردتُ تجنب فروض النسخ.

لم أشعر بالذنب حيال ذلك. اعتبرتُ الأمر لازماً لدواعي الإنصاف، فكان مرض جدي هو السبب الأساسي الذي جعلني أكره دروس النسخ. —- نادراً ما كان جدّي يتذكر أفراد العائلة وبالتالي كانت مهمّتي الصباحية، التي وقع علي الاختيار العشوائي الحقير بتأديتها، قائمة على تذكيره بجميع خلق الله. “مين هدول الواقفين جمب لُبنى؟” كان يسألني كلما نظر إلى الصورة العائلية المُعلقة بجانب سريره، والتي ظهر فيها ما يقارب ثلاثين شخصاً لم يتذكر منهم إلا قريبته لبنى صاحبة الجسد الممشوق، والأرداف الكبيرة والشفاه الغليظة. “هاي أختك سمية، وهاي إمك أولمبيا وهاد أبوك عصمت…” كنت أرد مستسلمة، منتظرة إيّاه أن يواصل أسئلته الفضولية عن كل شخص منهم، خاصة لبنى وما حصل بحبيبها الذي كان يذكر أنه نذل.

وهكذا بين لبنى وسمية وأولمبيا اللاتي لم أراهنّ في حياتي وبالرغم من ذلك استحوذن عليها، كرهتُ عيشتي وكرهتُ كل ما أوحى لي بالتكرار من ضمن ذلك فروض النسخ. —– ولكن كل شيء تغيّر عندما وقعت في غرام أم كلثوم. وجدتُ نفسي متلبّسة بالنفاق، كيف أمكنني ان أعشق أم كلثوم وأنا قد جعلتُ من مكافحة التكرار شغلاً شاغلاً لي؟ كان لا بد من إعادة النظر في القاعدة الجوهرية التي أسستُ معتقداتي وفقها:”التكرار بعلّم الحمار”. كنتُ مُتأكدة من صحة المقولة ولكني في الوقت نفسه كنت مُتيقنة أن أم كلثوم وكذلك حبيبها ومستمعيها ليسوا حميراً.

أما الأمر الذي زاد من حدّة الموقف فكان تعليقات صديقي صبري الذي رغم كونه مصرياً، أو بالأحرى لأنه مصري كان يكره أم كلثوم. كانت تذكرّه كوكب الشرق بالأيام الخوالي التي كان ينعم بها المصريون بترف الحب والتنغم به وتحليله ومعاينة مسبباته ونتائجه، مما كان يزيد من كرهه لواقع المصري المعاصر الذي يعاني من قحط غير مسبوق. أما كونه يفتقد إلى جميع أنواع الصبر، فكان ذلك يزيد من انتقاده للأسطورة الغنائية التي اتهمها بحب جلد الذات ولعب دور الضحية.

كانت تقوده أغاني أم كلثوم إلى البوح بتعليقات جارحة أقرب إلى التنمر منها من الانتقاد، فعندما تقول لحبيبها “قول. قول. قول. قول. قول. قول. قول الحب نعمة، مش خطية…” كان ينفذ صبره ويعلق مستفزاً “دين أمك على دين أم الحب. إن شالله عمر ما حد حب”. — مع الوقت تبين لي أنني لن أستطيع أن أتخلى عن أم كلثوم على حساب مبادئي وبالتالي اضطررت أن أتصالح مع التكرار. على عكس صبري، لم أنزعج من رتابة أغاني أم كلثوم، بل وجدت فيها ركوداً مستعدّاً لأن يحتوي عشوائيتي دون أن يُروّضها، وأنماطاً تخلق أشكالاً من فوضتي دون أن تقمعها، وإيقاعاً يضبط لهاثي دون أن يقطعه. يُعيد التكرار ربط جذورنا بالأرض عندما تصبح الحرية عبئاً يثقل كاهلنا.

ورغم أنه يصعب إنكار الملل المرافق لترديد نفس الكلام، إلا أن لهذا الملل أهداف أخرى غير الحمرنة تتعلق بتوظيفات اتسراتيجية بحتة تُمكنّنا من نيل متطلباتنا عن طريق الضغط على العدو. فعندما تطلب أم كلثوم من أمل حياتها أن “يسيبها تحلم” عشر مرات، إن إحتمالية أن يتحقق مُبتغاها أعلى بكثير من لو طلبت منه الطلب مرة واحدة وذلك لأن حبيبها سيمل من إلحاحها عليه، فلو كان حبيبها يقرب إلى صبري لكان سيجيبيها: “احلمي براحتك يا ستي بس اسكتي، أصلا محدش بعقله السليم هيخليكي ما تحلميش بعد النق ابتاعك ده. أحا”.